لأني قد ضيعت نفسي منذ سنوات، ولاعتقادي أن السفر وسيلة عظيمة في اكتشاف النفس، قررت استثمار جزء من مدخراتي في هذه الرحلة مجهولة المعالم، والتي سأقضي فيها ثلاثون يومًا في كوريا الجنوبية .

هذا المقال ما هو إلى تلخيص لرحلتي الطويلة إلى كوريا الجنوبية ، سأتحدث فيها عن ما يواجهني من لحظات، من مواقف ومصاعب بكل شفافية كما عودتكم.

بطبيعة الحال فلا تتوقع هذا المقال مشابه للمقالات السياحية، التي تتحدث عن معلومات تاريخية، وعن أبرز المعالم الحضارية، والأسواق وما شابه ذلك. هذا المقال على الجانب الآخر تمامًا.

رحلتي إلى كوريا الجنوبية لن تكون مباشرة، فعلي التوقف أولًا في دبي، ثم منها عن طريق الخطوط الإثيوبية إلى أديس أبابا، ومنها أخيرًا إلى سول عاصمة كوريا الجنوبية ، وقت الرحلات كاملة قرابة 24 ساعة، وهو بالتأكيد ليس بقليل، وهناك بلا شك رحلات أقرب عبر خطوط مختلفة.

قُبيل السفر:

بدأت التجهيز للرحلة منذ أسابيع، لكن آخر يومين كانت أكثرها انشغالًا، فالأول أتممت فيه ٢٦ ساعة مستيقظًا، نمت بعدها ٤ ساعات فقط لأكمل ما بقي علي من أمور، والتي كانت أيضًا كثيرة، ولم أنم فيه هو الآخر سوى ٤ ساعات أخريات.

واجهت مشكلة في إصدار بطاقة صعود الطائرة لواحدة من الرحلات، وبالأخص الرحلة من أثيوبيا إلى كوريا الجنوبية ، للأسف حتى بعد تواصلي مع الدعم الفني لشركة الطيران لم يحلوا المشكلة.

لم يكن أمامي خيار، حزمت حقيبتي وانطلقت إلى المطار متجها إلى دبي، ومنها بإذن الله سأصدر بطاقة صعود الطائرة.

تعقيدات:

بعد وصولي إلى دبي توجهت إلى القسم الخاص بتأكيد الرحلات، كانت الموظفة منزعجة لأنها ظنتني لم أحجز رحلة عودة، فأخبرتها أني قد فعلت، ولكنها على شركة طيران أخرى لذلك لم تشاهدها، بعد تأكدها من ذلك سمحت لي بالمتابعة.

تكرر الأمر لكن بصورة أكثر تعقيدًا في مطار انتشون Incheon الدولي في كوريا الجنوبية ، حيث لم تقتنع موظفة الجوازات بكلامي، وقالت كيف ستبقى في كوريا الجنوبية شهر كامل، ولغتك الإنقليزية ضعية، ولا تجيد الكورية؟

فقلت لها لا مشكلة، أنا جئت لأغامر، فطلبت مني أن أريها رحلتي للعودة، فعلت لذلك لأجدتها تتنهد، ثم رفضت ونادت موظف قسم التحقيقات ليكمل لي الإجراءات.

بعد حديث بسيط معه سألني عن ماذا أريد أن افعل وما هو عملي وأين سأقيم… سمح لي بالذهاب بكل سهولة، وليس كما حدث مع الموظفة.

تسهيلات:

توجهت من هناك لاستخراج شريحة أنترنت، ثم حجزت رحلة من طريق الحافلة إلى مكان قريب من السكن الذي استأجرته مسبقًا من الأنترنت، أعجبني تعاون موظف الفندق فقد وجهني وشرح لي الطريق الموصل إليه، ولم يقصر معي سائق الحافلة هو الأخر 🙂

بغض النظر عن تعامل موظفة الجوازات، وجدت الكوريين حتى الآن شعب لطيف ومتعاون، وأرجو أن يستمر الوضع هكذا.

بقيت في الغرفة طول الوقت، حتى جاء وقت صلاة الفجر، وصدقًا أول ما افتقدته صوت آذان المؤذن “الصلاة خير من النوم”.

أنوي مع طلوع الصباح الخروج واستكشاف المدينة، ولعل أولها مع تعبئة بطني الذي أزعجني بصراخه 🙂 قبل خروجي للإفطار وقت عيني على مقال لصديقنا طارق ناصر يتحدث فيه عن التجارب، مقال مميز يستحق القراءة.

ليس من سمع كمن جرب:

كثيرًا ما سمعت عن شكاوى المسافرين من الأكل، ولطالما نظرت لها بأنه ليست مشكلة أساسيًا، فأنا أكل أي شيء تقريبًا، ولا أهتم. لكني الآن عرفت عن ماذا يتحدثون، فليس من سمع كمن جرب.

أعاني منذ يومين من سوء التغذية، منذ بداية رحلتي ولم أذق طعم الأكل الجيد، لاحظ أني قلت جيد وليس ممتاز أو لذيذ حتى. فأكل الطائرة كان سيئ جدًا، وفي إحدى الوجبات كدت أتقيئ حرفيًا لولا لطف الله، ما جعلني أتوفق عن تناولها.

أثناء بحثي اليوم عن فطور جربت شراء فطرية جبن من بقالة بجوار السكن، تمنيت لو لم أفعل، أصبتُ بألم في معدتي مصاحب بشعور قاتل بالغثيان، وما لبثت حتى أجبرت نفسي على التقيؤ لأتخلص من هذا الشعور، والحمد لله أشعر بتحسن كبير.

قد يكون سبب هذا الغثيان هو حالتي النفسية، فهي ليست بأفضل حال.

شيئ جانبي:

وصلتني رسالة على صراحة، يقول كاتبها: لا تشارك متاعبك ومشكلاتك مع أي شخصٍ يحتمل أنه لن يفيدك في حلّها الأفضل أن تحتفظ بها لنفسك، حتى يأتي الفرج من الله.. ومن ثم تشارك تجاربك، والدروس المستفادة كما هو حالك مع العمل الحرّ. 😍 أرجو لك كلّ خير..

متفق معك، ولستُ أكتب لمشاركة مشاكلي بقدر ما أكتب لنفسي أولًا، ثم بهدف إفادة الآخرين، فربما يمر شخص من هنا يعاني من نفس المشكلة، ويجد الحل عندي. إذا لم نكتب ما يواجهنا من مشاكل ومصاعب فكيف لمن يواجهوا نفس المشاكل أن يجدوا الحل لها؟

كما استفدتُ شخصيًا من تجارب غيري من المفترض أن أساعد الآخرين بدوري بالحديث عن تجاربي

غربة:

على كثر السنين التي قضيتها في الغربة، لا اذكر أني شعرت بها بقدر ما أشعر بها الآن، ولا أقصد غربة البيئة أو المكان، ولا حتى العائلة والمجتمع، حديثي عن غربة الإسلام بالتحديد.

افتقادك لصوت الآذان، وسلام المسلمين وأخوتهم، كونك ترى رأيا العين أماكن الشرب والدعارة، مروج لها بلافتات صاخبه ومتحركة، ويزداد الأمر سوءًا حينما تشم رائحة الخمر التي لا تحتمل.

اشتياقي للمساجد دفعني للذهاب إلى حي ايتوان Itaewon، الذي فيه مسجد سيول المركزي، وهو المسجد الوحيد في سيول حسب ما قرأت.

ولأن فترة وصولي كانت قبل الظهر بساعتين وجدت أمين المسجد مشغول بتنظيفه، تحدثت معه قليلًا وعرضت عليه المساعدة لكنه رفض وأصر على ذلك، ظهرت عليه ملامح السعادة كثيرًا -وأنا أيضًا- وبقينا نتحدث لبعض الوقت.

يقول: عندما وجدتُ الحياة، وجدتُ الإيمان.

لا أخفيكم أن هذه اللحظات هي أفضل ما حدث لي حتى الآن في كوريا الجنوبية 🙂

مسجد سول المركزي
مسجد سول المركزي

أنته تيس:

تعرفت أيضًا على شاب كوري مسلم، لا يعرف من العربية إلا كلمة “أنته تيس” على ما يبدو، والمشكلة أنه لا يعرف معناها، بعد أن قالها لي بحثت بسرعة في صور قوقل لأريه ما هو “التيس”، بدا عليه الاستغراب اتبعه باعتذار كونه لم يتوقع أن تكون بهذه المعنى.

العيش مع أسرة كورية:

خرجت من المسكن الذي بقيت فيه 6 أيام، بحثت بعدها عن أقرب سكن للمسجد، وجد ضالتي عند أسرة كورية مكونه من زوجين، لديهم بيت صغير ومتواضع، لكنه جميل.

كانت لديهم غرفة شاغرة يؤجرانها على المسافرين، وجدتها فرصة جميلة للاقتراب من المسجد أولًا، ولتجربة العيش بين الكوريين، فتواصلت معها بخصوص ذلك.

كعادة الشرق أسيويين لا يبدو عليهم كبر السن، أقدر أنهم قد تجاوزا 50 سنة، وكثيرًا ما كانت تناديني الزوجة (اسمها آنا) بـ My son (أبني). صدقًا لقد ارتحت كثيرًا في البقاء معهم، وكأنني بين عائلتي، بساطتهم وحديثهم الودي الذي لا أفهم منه إلى القليل جميل ومريح.

ذكرني هذا بما قاله الرحالة سعود العيدي في إحدى لقاءاته التلفزيونية:

الرحلة الحقيقية هي رحلة اكتشاف الإنسان، وليس المكان.

وقد لامست معنى كلامه بنفسي.

يوم الأحد:

بما أن الأسرة التي سكنت معها نصرانية فبلا شك يوم الأحد يوم مهم ومميز عندهم، يشبه إلى حد كبير يوم الجمعة لدينا، دعت العائلة مجموعة من معارفهم للقدوم إلى المنزل، كان منهم إثنين من مصر، ويجيدان العربية بكل تأكيد 🙂

تحدثنا في العديد من المواضيع، بدايةً من التراث الكوري وليس انتهاءً بالتطور التكنولوجي لـ كوريا الجنوبية ، يبدو أيضًا أنني سأذهب رفقة أحدهم لتجربة شيء مميز وفريد، سأحدثكم عنه بعد تجربته بمشيئة الله.

حادث مؤسف:

دعاني اليوم لأخرج معهم إلى السوق، وبالتحديد شارع قانقنام Gangnam، وهو شارع معروف جدًا في سول،  انطلقنا سويًا في مغامرة جديدة لكن شيئًا لم يكن في الحسبان على وشك الوقوع. بعد وصولنا بدقائق لاحظت أن الزوج لا يتبضع، جالس في مكانه دون حراك.

توقعت أنه مشغول بهاتفه، اتضح أن أخيه قد توفي هذا اليوم، تغيرت ملامح وجهه البشوشة، أصبح على وشك البكاء، بالكاد يتمالك نفسه، اعتذرا مني لأنهم لم يستطيعوا إكمال الجولة معي، ذهبا في طريقهم وأنا عدت بدوري إلى المنزل.

صُدف:

ذهبت قبل أيام لأداء صلاة العصر في المسجد ومشيت بعدها إلى أحد المطاعم العربية لتناول الغداء، من قبيل الصدفة وجدت في المطعم أثنين من السعودية.

الأول عبد المحسن الشيخ، صاحب حساب كوريا تنتظركم في تويتر، وهو دكتور في إحدى الجامعات السعودية، وأظنه رئيس الرابطة الإسلامية في كوريا الجنوبية إن لم تخني الذاكرة، الآخر طالب يدرس في جامعة كورية منذ 4 سنوات.

دعاني صاحب المطعم للانضمام إليهم وتناول وجبة الغداء، سرتني الدعوة، وحضينا بحديث لطيف ومفيد اشتمل مجموعة من المواضيع منها أوضاء المسلمين في كوريا الجنوبية، كما تعرفنا قليلًا عن بعضنا البعض.

الصُدف عبارة عن توفيق رباني

تعال إلي:

كما هي العادة مع الأماكن المخصصة للسياح مثل حي إيتوان الذي أقيم فيه حاليًا، ستنتشر فيها أماكن الدعارة بلا ريب، وهو ليس بالغريب أصلًا.

بالأمس كنت عائد للمنزل قبل العشاء، وأثناء انشغال عقلي بالتفكير وعينان تهيمان يمنةً ويسرة، وقعتا على محل بإنارة وردية اللون، وسرعان ما التفتتا لمكان آخر.

في تلك اللحظات سمعت صوت طرق على زجاج، فعدت بنظري ناحية الصوت، فوجدت امرأة خلف الزجاج في محل دعارة تُأشر بيدها “تعال إلي”، تابعت طريقي وأنا أحمد الله واسأله الثبات على أن صرفني عنها.

في اللحظة التي تتفوق فيها على المعصية، تذكر أن الله صرفك عنها، وليس أنت

عقد:

ذهبت إلى مكتبة إسلامية في حي إيتوان، فحدثني صاحب المكتبة وهو شخص مسؤول عن كتابة عقود الزواج، أنه سيكون هناك زواج، فقلت لمن؟ قال لك -يقصدني- ثم ضحك هو ومن معه لبعض الوقت، وضحكت معهم بدوري.

تابع حديثه وقال: كنت امزح معك، هذان الاثنان وأشار بيده إلى فتاة مغربية وشاب كوري، على وشك عقد نكاح، ونحتاج إلى شاهد ثالث، فكما ترى لا يوجد إلا اثنان منا.

قلت حسنًا، هيا بنا. بعد إتمامنا لكتابة العقد كادا -العروسين- يطيران من الفرح، حتى أن الشاب طلب منا أن يعزمنا، لكني رفضت لإنشالي.

الميعاد:

هل تتذكرون التجربة التي ألمحت إليها من قبل، كان هناك العديد من العقبات أمامي للوصول إليها، فليس بدءًا بسوء الأحوال الجوية، والتي بسببها تأجلت التجربة لأكثر من مرة. وفوق هذا المكان بعيد ويحتاج إلى ساعات للوصول إليه بالقطار.

المشكلة أيضًا أنه لم يسبق لي تجربة القطار من قبل، كل تنقلاتي السابقة كانت عبر الحافلة، والقطار قصة مختلفة بالطبع.

ومن يتوكل على الله فهو حسبه

قبلها بيوم توجهت إلى قطار الأنفاق، وضعت نفسي أمام الأمر الواقع، حددت وجهة معينة، ثم حاولت الوصول إليها عبر القطار فقط، متتبع لوحة بعد أخرى، ومحاولًا حفظ أسماء المحطات الكورية الصعبة، أظن أن أكثر يوم نظرت فيه إلى شاشة هاتفي كان هذا اليوم.

فمرة أنظر إلى اللوحات الإرشادية، ومرة إلى شاشة الهاتف لأطابق أسماء المحطات، محاولة بعد أخرى ومن لوحة لأخرى، بدأت أعرف كيف يسير الأمر، بمجرد فهمه تزول عقبة كبيرة في طريقي، وما زال هناك غيرها الكثير.

بعد فهم أساسيات القطار، الذي بقيت متنقلًا بين محطاته لساعات، حان الوقت الآن للعودة للنوم، فقد كان يوم شاق جدًا.

ساعة الصفر:

مستيقظًا على نوم سيء كالعادة خرجت في الصباح متجهًا إلى محطة القطار، في البداية علي استقلال قطار واحد يمر بقرابة 7 محطات، المشكلة الحقيقية هي في التحويلة من قطار لآخر.

وصلت المحطة الأخيرة، خرجت من القطار، وكلي أمل بالله أن يرشدني في طريقي، وصلت أخيرًا إلى مكان القطار المراد، لكن المشكلة أنه يوجد مسارين، واحد في اليمين والآخر في اليسار، وكلهما يسيران في نفس الاتجاه.

قبل ذلك حذرتني منسقة التجربة على ألا أخطئ في اختيار القطار، فلو فعلت لن أصل مباشرة إلى المحطة المرادة، لأن القطار لا يصل إليها من الأساس، وسيكون علي التحويل على قطار آخر، والذي بالمناسبة لا توجد له مواعيد ثابتة.

تردد:

بقيت محتارًا بين المطرقة والسندان، حاولت جاهدًا تحليل الموقف لمعرفة أي قطار مسار هو الأصح، لكن كل محاولاتي بائت بالفشل، حتى سألت أحد الكوريين، فأخبرني أن علي استقلال المسار الأيمن، لكن لسبب لا أعرفه كان حدسي يخبرني بأن الأيسر هو الأصوب.

كنت انتظر وانتظر، القطار لا يريد أن يصل، فسألت للمرة الثانية شخص آخر، وقد أكد لي أن اختياري صحيح، فهو متوجه إلى نفس الوجه تقريبًا.

انتظرت كثيرًا، دون جدوًا، لا يبدو أنه سيأتي قطار من هذا المسار، المشكلة الأكبر أن الوقت حساس، لقد تأخرت بالفعل على موعد التجربة، أخاف أن تفوتني.

فُرجت:

بعد 40 دقيقة قضيتها منتظرًا عاد الشخص الكوري الذي سألته قبل قليل يخبرني أن هذا المسار خاطئ، والصحيح هو الأيمن. كما قال صاحبنا الأول 😑 .

في تلك الأثناء كانت منسقة التجربة على تواصل معي، تسألني أين وصلت بالتحديد، فأخبرها باسم المحطة وأتابع معتذرًا عن التأخر. كانت متفهمة جدًا، وطلبت مني أن أُعلمها قبل أصل للمحطة المطلوبة.

ركبت القطار أخيرًا قاصدًا وجهتي، بمجرد وصولي وجدت شخص عرفني ولم أعرفه، بدون كلام حتى، ولم يسبق له أن شاهد صورتي. ناداني ولوح بيده إليه، اصطحبي رفقته في السيارة إلى خارج المنطقة، حيث التجربة.

تجربة من الفردوس:

بعد قليل من التعليمات وارتداء لباس خاص، انطلقنا بالسيارة ناحية قمة الجبل، ثم كرر علي الملاح بعض التعليمات التي سبق وأخبرتني بها المنسقة.

أخيرًا، لقد فعلتها 😍 جربت الطيران المظلي لأول مرة في حياتي، كانت تجربة فريدة ومميزة وممتعة، لو سألتني ما أفضل شي قمت به في حياتي لقلت لك هذه التجربة بدون تردد، شعور لا يوصف، تجربة لا أجد وصف يعبر عنها أكثر من أنها تجربة من الفردوس.

إذا أردت القيام بأي شيئ في الحياة، حتى لو كان في غاية الصعوبة، أمامك أمرين فقط: الأول التوكل على الله. والثاني ثقتك بقدرتك على ذلك. فقط.. ستفعلها.
تجربة الطيران الشراعي في كوريا الجنوبية
تجربة الطيران المظلي في كوريا الجنوبية

حفلة:

كنت قد ذهبت إلى محطة القطار في سول Seoul Station لحجز رحلة إلى مدينة أخرى للانتقال إليها، في تلك الأثناء وصلتني رسالة من آنا تسألني هل سأفرت أم لا. ثم أخبرتني أنهم سيقيمون حفلة وداعية من أجلي في الغد وترغب في أن أحضرها.

قبلت الدعوة وأجلت سفرتي ليوم، في مساء اليوم التالي ذهبت إلى منزلها، كان العشاء لذيذًا، بعض أصناف البيتزا وأنواع متفرقة من الفواكه.

بعد فراغنا من الأكل شاهدت طقس غريب يقومون به، حيث يقف أحد الحضور ويروي قصة أو موقف حدث معه، وسط سكوت وإصغاء الجميع، وما إن ينتهي حتى ينتقل الدور للشخص الثاني، وهكذا.

إلى الشرق:

حان الوقت للخروج من سول، بصراحة لم أتوقع بقائي كل هذا الوقت فيها، لكنها كانت تجربة جميلة، وحان الوقت للانتقال إلى مكان آخر.

توجهت إلى بوسان، وهي مدينه ساحلية تقع شرق كوريا الجنوبية ، اخترت للوصول إليها ركوب القطار البطيء، يستغرق قرابة 5 ساعات حتى يصل، يتوفر القطار السريع أيضًا ويستغرق ساعتين فقط، إلى أني فضلت الأول عليه.

ذهبت بعد ذلك لمنزل عتيق عمره أكثر من 40 سنة، قريب من محطة بوسان، يفترض ألا أواجه معه مشكلة في التنقل وما شابه، سأقيم فيه لعدت أيام.

حسنًا، لماذا منزل عتيق وليس آخر حديث؟

في الحقيقة أحب الأشياء القديمة والتقليدية، لها ذوق خاص يميزها عن غيرها، يمكنك مشاهدة الحداثة في كل مكان، منزل حديث في كوريا الجنوبية قد لا يختلف عن آخر في ألمانيا مثلًا، لكن منزل قديم في كوريا الجنوبية ربما لن تشاهده إلا في كوريا الجنوبية ، وهذا ما أبحث عنه، شيء مختلف.

إذا أردت الراحة.. عش عيشة البسطاء
إطلالة رائعة على مدينة بوسان
إطلالة رائعة على مدينة بوسان

لعلي غيرت رأيي:

طوال الفترة السابقة كنت أتجنب الطعام الكوري، فبعد تجربته أول أيامي، وشعور الغثيان الذي أصابني توجهت للأكل العربي، والأكل المعهود في كل مكان مثل البيتزا والفطائر.

مع وصولي إلى بوسان، وقلة المطاعم العربية هنا، ذهبت إلى مطعم كوري يقدم وجبات شعبية، أردت تجربته من جديد، اخترت وجبة خفيفة مكونة من خضار وبيض وشيء شبيه بالمحار، كانت جيدة صراحة.

في البداية وجدت الطعام الكوري غير مستساغ، لكن يبدو أنه جيد ويمكن الاعتماد عليه، لقد غيرت رأيي 🙂

تسلق:

ذهبت في اليوم التالي لرحلة تسلق أعلى جبل في بوسان، لديه إطلالة رائعة على المدينة من الأعلى، التسلق لم يكن صعب على الإطلاق، الطريق ممهد ويسير، لكنها كانت تجربة جميلة.

طقس من طقوس البوذية
إحدى طقوس البوذية

بعد الوصول لأعلى القمة نزلت من الاتجاه الآخر للجبل، نحو معبد بوذي، في الطريق ستجد بعض الأحجار المتراصة فوق بعضها البعض، وهو طقس من طقوسهم الدينية يقومون به ثم يتلون أدعيتهم. لسوء الحظ تأخرت في طريقي ففاتني الغداء المجاني المقدم للزوار في المعبد 🙂

تابعت النزول حتى وصلت المدينة، ثم عدت أدراجي بعد يوم طويل، استغرق ما يقارب 9 ساعات (تسلق الجبل في حدود 6 ساعات ما بين صعود ونزول).

أهلًا بك في العائلة:

هذا ما قاله لي الشاب الأمريكي (اسمه آلان) -أحد جيراني- عندما علم من مالكة السكن أني سأبقى لـ 4 أيام إضافية في بوسان.

اقترحتُ على جيراني في بوسان أن أطبخ لهم بعض الطعام العربي، واتفقنا على أن تكون في وجبة العشاء لليوم التالي، ذهبتُ فيما بعد إلى سوق شعبي مشهور قريب من سكني، اشتريت منه بعض المكونات.

توقفت في إحدى البقالات لشراء البيض، فوجدت البائعة تقدم في أكواب صغيرة نبيذ Beer للزبائن، وكانت بالفعل قد مدت يدها لتعطيني إحداها، فما كان مني إلا أن أشرت بيدي علامة تقاطع -رفض- وكلي استغراب من فعلها، فلم أكن أعلم أنهم يقدمون النبيذ بالمجان، أو لعلها حيلة تسويقية لا أكثر.

عشاء بسيط مليء بالحب
عشاء بسيط مليء بالحب

يوم مميز:

كنت أتمنى إعداد وجبة خرافية لكن لقلة المكونات المتاحة، ولضعف البهارات خصوصًا اقتصرت على الشكشوكة وطبخة تعلمتها من أختي عبارة عن بطاطا وجزر مخلوطة مع بعضها ومطبوخ معها قليل من البصل والطماطم.

كانت النتيجة جيدة، ليست بأفضل ما يمكنني إنتاجه بالتأكيد، على كل حال حصلت على ثناء وإعجاب من قبلهم، قد تكون مجرد مجاملات، من يدري؟ إلى أنهم أكلوا كل الأطباق بالكامل 🙂

 

قليل من العتب:

سألتني المالكة (اسمها ميونق): كم عدد الأماكن التي زرتها في بوسان؟ فأجبت بإثنين فقط. ردت علي معاتبة: لماذا! أنت جئت للترحال، لماذا لم تزر أماكن أكثر.

قلتُ لها بلا عليك غدًا سيصبحون ثلاثة مع ابتسامه عريضة 🙂 . فقالت هذا قليل، المفترض أن تزور أماكن أكثر فبقائك هنا يخسرك أموالًا. فقلت كلامك صحيح، لكني أعجبت بالبقاء في مسكنك، وهذا ما دفعني لقضاء وقت أكثر للراحة والنوم. في الحقيقة لعل أفضل مكان ارتحت فيه حتى الآن هو فترة بقائي في بوسان.

مسكينة ميونق، فلم أتركها في حالها، لقد طلبت منها أن تساعدني لتخطيط رحلتي القادمة، والتي ستكون لجزيرة أسفل كوريا الجنوبية ، وقد فعلتَ كل ما بوسعها لمساعدتي، من بحث عن أفضل الأوقات التي تناسبني، وحجز تذاكر رحلات الطيران والسفينة، وغيرها…

لماذا نُسافر؟

السفر بالنسبة لي عبارة عن تجارب، كل تجربة تضيف قيمة خاصة ومميزة، عندما أُخير بين تجربتين فإني اختار أكثرها قيمة، ذهابي لمشاهدة برج أو شاطئ قد لا يضيف لي قيمة بقدر ما يضيفه بقائي في منزل وحديثي الودي مع جيراني مختلفي الثقافات.

السفر ليس بعدد الأماكن التي نزورها، ولا بعدد المناظر التي نشاهدها، بل بخوض تجارب مختلفة ومتنوعة، بعيش حياة مختلفة عن تلك التي نعيشها في بلداننا، إذا كنا سنكرر ما نفعله في بلادنا ولكن في بلاد آخرى، فبالله عليك لماذا نُسافر؟

السفر عبارة عن تجارب، أينما وجدتُ التجارب الجميلة فهذا كافي.

رهان:

جزء من المسلمين يتخلى عن بعض مبادئه إذا تعرض لبعض المواقف، منها مصافحة اليد من طرف النساء، بعضهم يقول لا أريد أن يفهموا الموقف بشكل خاطئ، لا أريد أن يأخذوا فكرة خاطئة عن الإسلام.

للإنصاف لديهم وجهة نظر قوية، لكني كنت أراهن على موضوع أكبر، رهاني إلى أي درجة الشخص الذي أمامي متفهم ومتعايش مع الآخرين، مع المسلمين خصوصًا. إلى أي درجة هو متفهم لبعض المعتقدات التي قد تكون غريبة وغير منطقية من وجهة نظرة.

تعرضت لهذا الموقف بالتحديد أكثر من مرة، وبعد رفضي للمصافحة لم يحدث شيء، يقابلني منهم اعتذار ثم ابتسامه. بل إن من قابلتهم كان تعاملهم معي طيب إلى أبعد درجة، ولم ألاحظ أيًا من تغير النظرات أو التعامل.

أسعدتني حقًا 😍
أسعدتني حقًا 😍

هدية:

قبل فترة من مغادرتي سألتني ميونق: بما أنك لا تصافح النساء، كيف يفترض بي توديعك، أعانقك أو فقط ألوح لك بيدي وأقول وداعًا؟ فقلت يكفي أن تلوحي بيدك وتقولي وداعًا Bye bye.

بعد مغادرتي للمنزل بخطوات اتصلت بي وطلبت مني العودة. عدتُ فوجدها تنتظرني بجوار الباب، وقالت: بما أنك تحب القوة، هذه هدية مني. ثم سلمتني علبة قهوة سريعة التحضير. مع بساطة الهدية إلى أنها أشعرتني بسعادة غامرة 🙂

هذه الهدية قد تكون بسيطة في قيمتها إلى أنها عظيمة في مضمونها ومعناها

إلى الجنوب:

متجها إلى جزيرة جيجو، أسفل نقطة في كوريا الجنوبية ، كنت أنوي الذهاب إليها عن طريق السفينة التي تستغرق 12 ساعة في البحر حتى تصل، لكن للأسف تأخرت في حجز التذكرة مما جعلها تفوتني.

لم يكن لدي خيار غير استخدام الطائرة، ومع أنها تستغرق ساعة واحدة فقط إلى أنها بنفس تكلفة السفينة.

العيش في حاوية:

اعتدت اختيار مسكن قريب من مركز المدينة، حتى لا أواجه مشاكل في التنقل أو البحث عن طعام مناسب، لكني في جيجو فعلت العكس، فقد اخترت مسكن في جنوب الجزيرة، مسكن جميل عبارة عن حاويات شحن -مقطورة- يقع في الأرياف بعيدًا عن صخب المدن، وعن الخدمات أيضًا.

بعد وصولي للمطار توجهت لاستقلال الحافلة ولسوء الحظ لم استطع لحاقها، فكنت بين خيارين إما انتظار 70 دقيقة حتى تأتي الحافلة الثانية، أو التوجه إلى مركز الحافلات.

اخترت الخيار الثاني، ويا ليتني لم أفعل، فقد ضاع أكثر من ساعتين وأنا متنقل من مكان لآخر حتى وصلت أخيرًا.

ترقية:

لطالما نظرت للأشخاص الذي ينامون بأي وضعية وفي أي مكان أنهم في نعمة عظيمة، ربما لا تقدر بثمن. كشخص يعاني من الأرق المزمن، ولا يكاد ينام بسهولة وهو على فراشه، كيف له أن يفعلها وهو جالس على كرسي الحافلة مثلًا؟

سأكون كاذبًا لو قلت أن هذه الرحلة سهلة، وبقدر ما فيها من فائدة ومتعة إلى أنه مليئة بالمتاعب والمصاعب من كل حدب وصوب، ولعل كمية التعب هذا قد سببت ترقية في قدراتي الشخصية، مثل ألعاب الفيديو، صدقوا، لقد تمكنت من النوم جالسًا بالأمس 🙂

بعد نزولي من الحافلة جاءت بسيارتها الكهربائية صاحبة المسكن تقلني إلى مكانه، فعلها كان تصرف شخصي منها لمساعدتي ليس أكثر.

البحث عن مركبة:

في صباح اليوم التالي توجهت إلى مركز المدينة لاستئجار سيارة، وبعد الكثير من المحاولات كلها بائت بالفشل بسبب أنهم لم يقبلوا رخصتي للقيادة، بحجة أنها ليست رخصة دولية، مع العلم أن الرخصة الدولية لا تقدم ولا تؤخر إذ إنها مجرد ترجمة لما هو مكتوب في الرخصة الأصلية.

وأساسًا رخصة قيادتي مكتوبة باللغتين العربية والإنقليزية، فلا أدري لماذا كل هذا التعقيد والنتيجة النهائية واحدة (أنا أجيد القيادة).

بعد ذلك فكرت في استئجار دراجة نارية لاتفاجئ بالرفض مجددًا، حسنًا، لعلها خير.

مسجد:

بعد بحثي غير المضني عن مركبة خطر على بالي البحث عن مسجد، فأنا في مركز المدينة الآن، واحتمالية إيجاد مسجد أكبر هنا، بحثت في الخرائط فوجدت واحد، وفيه معلومات موثقه مثل رقم الهاتف ورابط للموقع، لكن الصور لا تبدو مثل مسجد، انه منزل عادي، قلت لأجرب ماذا سأخسر.

ذهبت بالحافلة حتى وصلت بجوار الحي، نزلت ابحث عنه بين البيوت المتشابهه حتى وجدته، وفعلا كان مجرد بيت عادي، فطرقت الباب قلت سأنظر من سيخرج لي، طرقت ثلاث مرات عملًا بهدي الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فلما لم يجب أحد غادرت إلى حال سبيلي.

متهورون:

هل سبق أن سمعت صوت عداد السرعة لحافلة من قبل؟ صدقني لقد سمعته في هذا اليوم أكثر من مرة. طيب ما رأيك لو أخبرتك أني ركبت حافلة سائقها يقفز من فوق المطبات، ونعم توجد الكثير من المطبات في كوريا الجنوبية ، بداية من العاصمة سول وانتهاءً بجزيرة جيجو.

حافلة أخرى بمجرد ركوبي لها أخبرني قائدها أن أربط حزام الأمان، ركبت عشرات الحافلات وفي مدن متفرقة، وهذه أول مره يقول لي أحدهم أربط حزام الأمان، عرفت السبب بعد لحظات، فهو متهور بالفعل، يقود بسرعه كبير، ترانا في المنعطفات نترنح مرة لليمين وأخرى لليسار 🙂

قاب قوسين أو أدنى:

انطلقت في هذا اليوم لتسلق جبل هالاسان Hallasan، أعلى جبل في جيجو، ارتفاعه 1950 متر، وتحتاج للمشي ما يزيد عن 9 كيلو متر صعودًا. عند بحثي عنه وجدت الوقت المتوقع لصعوده في حدود 3 ساعات، فوجدتها سهله.

كنت أنوي شراء بعض الأكل قبل صعود الجبل، إلى أنه وبسبب عيشي في مكان نائي لم يكن هناك أسواق، وبقي رهاني الأخير على أمل أن أجد بقالة عند مدخل الجبل.

وبالفعل وجدت واحدة مع مطعم، لكني كنت أريد فطاير فقط، ورغبتي أعمتني عن شراء بسكويت أو أي شيء قد يسد الجوع وقت الحاجة، بالإضافة إلا أني استصغرت المهمة.

جوع وتعب:

انطلقت من المدخل في تمام الساعة 11 صباحًا، مشيت على راحتي كالعادة وبعد ساعه من التسلق بدأ الجوع يصارني، فوجبت الفطور كانت قبل 6 ساعات، وهي عبارة عن رامين لا يسمن ولا يغني من جوع.

في الطريق سألني رجل كبير في السن عن الساعة الآن فأخبرته واستمر يكلمني بالكورية ولا أدري ما يقول، حاولت التوضيح له بأني لا افقه شيء بالكورية، لكنه استمر يتكلم، فمجاملة له كنتُ أومئ براسي، وأصدر همهمات كلما توقف بين الجمل، ثم سارعت خطاي لتجاوزه.

وصلت بعد ذلك إلى مفترق طرق، الأول يؤدي إلى قمة الجبل، والثاني ينعطف اتجاه بحيرة صغيرة، ذهبت ناحيتها، أثناء صعودي من الدرج كان التعب قد بلغ مني ما بلغ، وطاقتي على وشك النفاذ فالجوع لم يترك لي شيء منها.

تحاملت على نفسي حتى وصلت البحيرة، فوجدتها خاوية على عروشها، لا ماء فيها، أرض حدباء كالصحراء، جلست استريح قليلًا قبل عودتي للطريق الرئيسي، فما زلت أنوي المتابعة بغض النظر عن الظروف.

هدية إلهيه:

وجبة الغداء
وجبة الغداء

أثناء استراحتي وجدت الرجل السابق قد سلك نفس الطريق، جلس بجواري، أخرج من حقيبته بعض الطعام، وطلب مني مشاركته. لم أرد رفض هذه الفرصة لاستعادة جزء من طاقتي، فوافقت على الفور.

كان الطعام بسيط وخفيف، بيضة مسلوقة وأرز ممزوج بنوع لم أعرفه من الفواكه، طعمها حلو، كان قد طلب مني تناول المزيد لكني رفضت واكتفيت بما سبق خشية أن أنهي عليه طعامه.

كنت قد جلبت معي عدد لا بأس به من العملات الورقية لبلدي، أعطيها تذكارات لمن أقابلهم، أخرجت واحدة منها ومددتها له، فصرخ رافضًا بكلام كوري، ويلوح بيديه “لا”، فهمت من تصرفاته وتعابير وجهه أن ما قدمه لي ليس بخدمة يلقى منها مقابل، هي هديه.

وحيد:

استمريت بصعود الجبل، كلما ارتفعت للأعلى زاد الجو برودة، وأصبحت أنفاسي تخرج بخار أبيض، ولم يطل الأمر حتى غطى الضباب الأفق، ازداد الأمر سوءًا مع نزول المطر، كان خفيف جدًا، لكنه كافي لجعل أصابعي تؤلمني من البرد، وتحول لون أضافري للأزرق، لا أدري هل هو من نقص الغذاء في جسدي، أو من البرد، ربما كلاهما معًا.

تابعت الطريق فكنت الوحيد الذي يصعد، أما البقية فينزلون، حتى أوقفني أحدهم وقال بأن الوقت قد انتهى، لا يمكنك الوصول لأعلى الجبل. نظرت له بحسرة، وقلت “لكن..” أردت المتابعة بقول لكني قد قطعت كل هذه المسافة، لا يمكن أن أرجع. فقال: جرب.

طريق جبل هالاسان
الضباب يغطي الأفق

صعدت وصعدت، قطعت ما يقارب 8 كيلو متر ونصف، بقي القليل، القليل فقط، حتى وجدت المستطلع أو الكشافة، لا أدري ما اسمه ولا أريد أن أدري، كان يمشي باتجاهي من ذلك الطريق الضيق، فوجدت منه تصرف بغيض، نو نو نو.. قو قو، ويؤشر بيديه وكأنه يهش على غنم.

حاولت التكلم معه دون جدوى، نو نو.. قو قو. أخرجت الهاتف لأوضح له عن طريق المترجم، ولكن لا شيء من هذا ينفع معه، نو نو نو، ويلوح بيديه. فعدت أدراجي مستاءً.

عسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم

سباق:

دقائق قليلة تفصلني عن القمة
دقائق قليلة تفصلني عن القمة

في تلك الأثناء دب في نشاط غريب، وكأنني لم أكن أترنح من التعب قبل قليل، فعدت نزولًا مسارع الخطى، هذا الطريق لا يعتبر شيئًا مقارنة بما لقيته في صغري، أردت الخرج من هذه الجبل بأسرع وقت ممكن، كنت أتجاوز أناسًا شاهدتهم من قبل أثناء صعودي.

مستمرًا في النزول بسرعه، ضننت نفسي الأسرع، حتى سمعت صوت خطوات خلفي، رجل كبير في العمر يكاد يسبقني، لقد سبقني فعلًا، خطواته سريعه، إنه يجري.

فقلت حسنًا، سأجري معه، وفعلتها بالطبع، كلما جرى أجري، وكلما خفف سرعته خففت سرعتي بدوري، لم يمضي الكثير حتى وصلت إلى حدي، واستسلمت للأمر الواقع، لا يمكنني مجاراته، هذه ليست أفضل حالاتي للإنصاف، فأنا بلا طاقة أساسًا منذ البداية.

خسرت مرتين اليوم، الأولى عند فشلي في وصول قمة الجبل، والثاني في سباقي مع الرجل.

البحث عن فرس:

في الصباح أرسلت لمالكة النُزل أسألها إذا كان هناك مكان قريب يمكنني فيه تجربة ركوب الخيل. فكثيرًا ما كنت أرى الإسطبلات منتشرة في كل مكان في جيجو.

أخبرتني بمكان قريب نسبيًا لكنه ليس قريب من طريق الحافلة، ما يعني أنه علي ركوب سيارة الأجرة للوصول إليه، فوق أن سعر الأجرة مبالغ فيه، كيف سأضمن وجود أجرة تقلني عند انتهائي، لا أريد أن أنام بجوار الطريق هذه الليلة.

لذلك بحثت عن مكان أخر، ثم انطلقت إليه، ومن حافلة لأخرى لا أدري كيف حدث هذا، لكني حددت موقع على الخريطة مغاير تمامًا لوجهتي، فكان علي العودة من جديد وركوب الحافلة، والتي لا بد أن يكون وصولها متأخر، بعد 20 دقيقة.

تغيير الوجهة:

في تلك الأثناء وبعد كل هذا اللف والدوران، غيرت رأيي، لماذا أركب حصان أصلًا؟ فتوجهت لأقصى شرق جيجو، إلى منتزه سونقسان Seongsan، ولا حاجة لأخبركم بأن الطريق كان مزعج أيضًا، ما الذي أتوقع من المواصلات في جيجو أساسًا.

بعد أن وصلت أخيرًا، وكان هذا في فترة الظهيرة، وقد احتر الجو ذهبت لصعود تل ناحية المنتزه، في الصور تبدو قمة التل رائعة، لكنها كانت عادية بكل صراحة.

نزلت بعدها من طريق آخر غير الذي صعدت منه، فسمعت صراخ يأتي من الأسفل، من عند الشاطئ، كان هناك زوارق صغيرة تأخذ بالزوار جولة تمتد لدقائق.

ناحية التل
ناحية التل

ذهبت لتجربها، الزورق سريع، ويبدو الأمر حماسيًا أكثر كلما زادت سرعة، وقفز من فوق الموج، أو انعطف بقوة. بالطبع تتعالى مع ذلك صرخات الركاب، وما زلت إلى يومنا هذا أتساءل عن التفسير المنطقي الذي يدفع الشخص للصراخ دون جدوى.

على كل حال الحمد لله أنني استطعت تجربتها، فهي الحسنة الوحيدة لهذا اليوم.

انتهى وقتي:

بكل صدق لم تكن زيارتي لجزيرة جيجو موفقة، هي ليست بذلك السوء صراحة، لكنها لم تكن كما أردت، ولعل أفضل ما فيها تجربة الزورق البسيطة.

في آخر ليلة لي فيها صعدت فوق النُزل، جلست وحيدًا تحت ضوء القمر في ذلك الجو البارد، أناظر السماء المليئة بالغيوم، في تلك المنطقة النائية، بين الظلام الدامس، ونباح الكلاب الذي يصدر بسبب وبدون سبب.

تذكار:

رتبت أغراضي لأغادر، خرجت من غرفتي فوجدت مالكة النزل مشغولة بتنظيفه، توجهت ناحية جدار داخلي للنزل مخصص للتذكارات، به العديد من الصور والكتابات التي تركها المسافرون من قبل، فقلت لما لا اترك بصمتي أنا الآخر.

استأذنت المالكة، أخذت قلم وورقة، ثم توقف عقلي عن التفكير، ما هي العبارة التي سأكتبها؟ وما هي معانيها؟ تخيلت هذا المشهد من قبل، وكان في عقلي عبارة كثيرة وددت لو أكتبها.

لا يفرق الميزان بين الذهب والرصاص
لا يفرق الميزان بين الذهب والرصاص

بعد بره لم أجد شيء في رأسي، أين ذهبت أفكاري السابقة؟ فتذكرت عبارة لا يفرق الميزان بين الذهب والرصاص، فكتبها، وهي من أكثر العبارات التي أعرفها قوة في المعنى، وما يجعلها مميزة جدا في نظري أن لها معاني عديدة، كل شخص والطريقة التي ينظر بها إليها.

إلى الغرب:

عندما طلبت من ميونق أن تساعدني في حجز مواعيد رحلتي إلى جيجو طلبت أن تكون العودة إلى مدينة يتوفر فيها القطار المباشر إلى سول، فلم يتبقى لي سوى بضعة أيام قبل أنتهاء رحلتي.

ولا أريد أن أواجه صعوبة في العودة إلى العاصمة، أخبرتني ميونق أن مدينة موكبو مناسبة، ويتوفر فيها القطار السريع، يستغرق ساعتين ونصف فقط حتى يصل.

في الصباح خرجت متجهًا إلى الميناء، سأركب أخيرًا السفينة، في رحلة تمتد لأربع ساعات إلى موكبو.

في البحر:

لم تكن تجربة البحر كما تأملت، فالجو لم يكن صافيًا، والأفق غير واضح المعالم، ومع ذلك كانت تجربة جميلة، السفينة ثابته ومريحة، بالكاد تشعر بحركتها، ربما مستوى الراحة فيها يقارب أو يفوق الطائرة، ما زلت تشعر بالطبع بارتعاشها الخفيف الغير مؤثر.

عند الحجز أخترنا أقل درجة، وهي عبارة عن غرفة جماعية تتسع لقرابة 20 شخص، كلنا جالسون على الأرض، بلا طبقية، ما بين نائم بدون لحاف ولا وسادة، وأخر يلاعب طفلة، وثالث يمضي وقته على جواله (بالليل يوفرون مفارش للنوم).

صورة من نافذة الغرفة، لا تنسى نصيبك من القرآن
صورة من نافذة الغرفة، لا تنسى نصيبك من القرآن 🙂

كنت أتأمل وجوه الموجودين من حولي، وأكثر ما لفت انتباهي امرأة عجوز، مع ولد صغير لا أدري هل هو أبنها أم حفيدها، لا تفارق دمية السمكة يديه، صدقًا لقد أثارا فضولي، وودت لو أذهب للحديث معهم، لكني لم أفعل.

البحث عن شاي:

بالطبع ما كنت لأبقى كل الوقت في هذه الغرفة، ذهبت استكشفت الكثير من السفينة، حتى كدت أدخل إلى صالات رجال الأعمال 🙂 . يوجد في السفينة مطعم وبقالة ومخبز للكيك والفطائر، وغيرها.

لا تُضيع الفرصة
لا تُضيع الفرصة

كانت لدي رغبة شديدة في الأكل، وكلما أكلت لم يكفني ورغبت بالمزيد، فذهبت للبحث عن شاي، وكلما سألت يخبروني أن ظالتي موجودة في المخبز، فتوجهت إليه.

أخذت شاي وبعض الفطائر، وعلى غلاء كوب الشاي إلى أنه سيئ المذاق، ندمت لشرائه، ولم استطع إكمال نصفه حتى.

وصول:

عند وصول السفينة إلى موكبو خرج الجميع بسرعة، ولم يبقى في الغرفة سواي أنا ورجل، والعجوز وصغيرها، كان لديها الكثير من الحقائب، ثلاث حقائب كبيرة بالإضافة إلى ما تحمله معها.

عرضت عليها المساعدة، وبعد إلحاح بسيط وافقت في النهاية 🙂 خرجنا من الغرفة ونزلنا الدرج، لكننا أخطأنا الطريق لينتهي بنا المطاف في القسم السفلي الخاص بنقل المركبات، كان رفقتنا فريق من قائدي الدراجات الهوائية، ساعدني أحدهم بحمل الحقائب.

بقينا منتظرين لحين فتح باب السفينة العملاق، فكانت فرصة للحديث معها، لم استطع سماع اسمها بوضوح للضجيج العالي في تلك البقعة من السفينة، لكنها من كاليفورنيا، والصبي الذي معها ولدها، جاؤوا للترحال مثلي.

حملت معهم الحقائب حتى خرجنا من السفينة، شكرتني كثيرًا على مساعدتها، توجهت إلى الشارع لركوب الأجرة، وأنا انطلقت لمحطة القطار لحجز رحلة إلى سول.

عائلة جديدة:

أحاول دائمًا اختيار مسكن مميز أشعر من خلاله أنه سيقدم لي تجربة جميلة تستحق الخوض، هذه المرة كانت مع عائلة مكونه من جد وجدة، أبن وزجته، وأطفالهم الصغار.

لديهم منزل عصري فريد من نوعه، متطور وراقي، محاط بحديقة جميلة، ومزارع كثيرة. وهو الآخر في منطقة بعيدة عن مركز المدينة.

البيت مكون من طابقين، بعد وصولي قابلني صاحب البيت، وهو رجل معماري صمم البيت بنفسه، اصطحبني للدور العلوي، إلى غرفتي، وأخبرني بحرية تحركي في ذلك القسم من المنزل، فلا أحد سواي فيه حاليًا، فكل أفراد العائلة يعيشون في الدور الأول.

ضيافة:

قطعة صغيرة من الكيكة اللذيذة
قطعة صغيرة من الكيكة اللذيذة

فترة وصولي كانت بعد العشاء، فوجدتهم قد تركوا قطعة بيتزا، تبين أنها تحتوي على لحم لذلك لا يمكنني أكلها، فقاموا باستبدالها بكيك لذيذ الطعم 🙂

استأذنت إثرها صاحب المنزل عن إمكانية استخدامي للغسالة لغسيل ملابس، فرد بكل تأكيد. فسألته: هل هي سهل الاستعمال؟ قال: بالطبع. ثم اصطحبني إليها.

المضحك أنه لم يعرف كيف يستعملها، فقال دقيقة لكي ينادي زوجته تعلمنا، كان موقف طريف.

إشارة:

في صباح اليوم التالي أرسلت لهم استأذن سماحهم لي بالتقاط بعض الصور للمكان، ثم نزلت فوجدتهم للتو قد انتهوا من الفطور.

عرضوا علي الفطور، فقبلت، كانت وجبة كورية تقليدية، قليل من السمك، بالإضافة إلى الأرز وحساء غريب يحتوى على بيض مسلوق، أعجبني الفطور حقيقة، طعمة مزيج بين الحلو والحامض يترك مذاقًا رائعًا.

بعد الفطور قدموا لي القهوة، ثم بدأ الجد يشرح لي تسلسل العائلة عبر صور معلقة في الجدار بلغة الإشارة، فهو لا يستطيع السماع، ويكتفي بإشارات بسيطة توصل المعنى.

عودة:

بقيت في موكبو لأقل من يوم، تمنيت لو بقيت أكثر، أعجبني طيب العائلة الكورية، وبساطة عيشتهم داخل هذا المنزل العجيب. انتهيت من التقاط الصور، رتبت أغراضي وودعتهم، وعند خروجي بقليل ناداني الجد، وهو يلوح بيديه بما مفاده سأقوم بتوصيلك.

منزلهم الراقي وبجواره مركبة الجد
منزلهم الراقي وبجواره مركبة الجد

وبالفعل شغل مركبته الغريبة، وهي سيارة تتسع لشخصين فقط، لديها قدرات قوية فهي مخصص للمزارع والأراضي الوعرة. اصطحبني معه إلى موقف الحافلة، ودعني، ثم ذهبتُ إلى محطة القطار متجها إلى سول.

قرف:

بعد عودتي إلى سول كان علي زيارة الأسرة التي بقيت معها كما وعدتهم، ذهبت مساء اليوم التالي إليهم، فلم أجد في منزلهم غير الشاب المصري الذي تحدثت عنه سابقا، أما الزوجين فهما في الخارج ولن يعودا قبل ساعات.

لم يطل الأمر حتى عاد الزوج، وسرعان ما تبعه شخص آخر لا نعرفه، جهزنا العشاء وجلسنا على الطاولة، دعوناه للأكل معنا فجلس ولم يأكل، كان فقط يناظرني طول الوقت.

لم ارتح للأمر لكني ومن باب إحسان الظن ظننته مستغرب من طريقه أكلنا بأصابعنا دون ملاعق، استمر يحدق حتى انتهينا. ثم تقرب بكرسيه مني، وما بقي إلا أن يدخل في من تحديقه، يبدو لي أنه شاذ والعياذ بالله (أو ربما مريض نفسي)، شعرت بكمية تقزز لا تطاق، وددت لو تقيئت من كمية القرف التي عمت الأرجاء.

أشرت له وقلت أنا شخص طبيعي، لست بشاذ، لا تتقرب مني ولا تلمسني. وقمت من مكاني. عادت الزوجة حينها، فودعتها، ثم انصرفت، بقي يومين فقط على رحلتي، لا أريد آن تحدث مشكلة تفسد كل ما سبق، لذلك غادرت.

وداعًا:

بقيت اليومين الأخيرة بدون فعل شيء مميز، مجرد تجربة بعض الوجبات الكورية من وقت لآخر، والتي كانت لذلذة حقًا. توجهت مساء اليوم الأخير للمطار، ركبت الطائرة إلى أديس بابا، كان بجواري أم وطفل عبارة عن آلة إزعاج بشرية، ذقت منه ما يكفي لجعلي أستمر في كره هذه الكائنات البشرية صغيرة الحجم.

وجبة مكونة من أرز وخضار بالإضافة إلى كيمتشي وبعض البحريات
وجبة مكونة من أرز وخضار بالإضافة إلى كيمتشي وبعض البحريات

وجدت في مطار أديس بابا شاب أظنه هندي شاهدته من قبل على نفس الرحلة إلى كوريا الجنوبية، فتحدثت معه قليلًا. على خلافي تابع طريقة إلى اليابان، وبقي فيها شهر، وعاد على نفس المسار لنتقابل هنا.

هل وجدتُ المعنى الذي كنتُ أبحث عنه؟

يقال أن أصعب مهمة على الإنسان مهمة بحثه عن نفسه، لأنها مهمة تتطلب منه البحث عن شيئ  لا يعرف ما هو أساسًا.

لا يمكنني الإجابة على السؤال بنعم بسهولة، لكن يمكنني القول أني اقتربت، لقد اقتربت كثيرًا. وفعلًا كما قال إبراهيم سرحان:

السفر يأخذ منك مالك ووقتك وجهدك.. ثم يعطيك نفسك

استطيع القول أني عرفت أشياء كثيرة عن نفسي من خلال سفري إلى كوريا الجنوبية ، أكثر مما كنت أعرف من قبل، بعض الأمور كنت أظنها مهمة عندي حتى تبين لي أنها غير كذلك، وأمور أخرى على العكس، كنت أظنها غير مهمة لكن تبين لي أنها خلاف ذلك.

لم أجد المعنى بعد بكل تأكيد، لكني على الأقل قد أمسكت طرف خيطه.

النهاية:

في الحقيقة لم أمكث في كوريا الجنوبية ثلاثين يومًا، كانت 29 يوم فقط، أخطأت في تاريخ حجز رحلة العودة فجعلتها متقدمة بيوم واحد، على كل حال لا مشكلة فيوم واحد لن يحدث فرقًا أليس كذلك 🙂

وصلنا إلى النهاية، كانت تجربة جميلة جدًا، سعيد بكون خضتها، وفخور بهذا الإنجاز الشخصي، لقد ساعدتني رحلتي إلى كوريا الجنوبية لاكتشاف وتجربة أمور عديدة، ربما لم أكن لأعرفها بدون هذه التجربة، وسمحت لي بمواجهة الكثير من الصعاب والتحديات.

ختامًا، القلم في أيديكم الآن، من كان لديه سؤال أو استفسار عن أي جانب من جوانب رحلتي إلى كوريا الجنوبية فيتفضل دون حرج.

سأضيف فيما بعد إن شاء الله الكثير من الصور لهذا المقال.

كل التقدير أعزائي 🙂

رحلتي إلى كوريا الجنوبية لم تنتهي بعد، سأضيف إليها كلما وجدت شيئًا يستحق الكتابة عنه، للحديث بقية في وقت آخر بإذن الله.

إذا كان هذا المقال قد أعجبك، فربما يعجبك أيضًا مقال: رحلتي إلى البيت العتيق.