قبل عدة أشهر نويت الانقطاع عن التقنية لأسبوع كامل، أردت أن أرتاح قليلًا من صخبها، لكني لم أنفك أؤجل مرة بعد أخرى، مرات لأسباب مقنعة ومرات بدون أسباب، إلى أن قررت أخيرًا إجراء التجربة، وهذا كان قبل أسبوعين، خلال هذا المقال سأتحدث عن تجربتي، وعن الفوائد والملاحظات التي لمستها في حياتي بعيدًا عن التقنية.
لن يكون سهلًا
منذ فترة ذهبت لزيارة أهلي لمدة يومين، وخلال هذه الفترة البسيطة كانت شبكة الأنترنت معطله بالكامل، مر اليومان ببطء شديد، وكانا مملين جدًا، عرفت من خلال هذه التجربة البسيطة أن ما أنوي القيام به سيكون أصعب بكثير، فهذه المرة الانقطاع لن يكون عن الأنترنت فقط، بل عن التقنية كلها.
الأمر بالتأكيد لن يكون سهلًا، ولكن صدق أو لا تصدق، لم تكن فترة الأسبوع صعبة كما كانت اليومين السابقة، صحيح أنها كانت مملة في الغالب بسبب عدم وجود شيء يشغل وقتي، وهذا يعود لانعدام الوسائل التي ستساعدني على استغلال الوقت بالنسبة لي، ومع هذا مرت التجربة واستطعت إنهائها.
التقنية تسلبنا أكثر مما نتصور
خلال التجربة انتبهت أن التقنية تسلبنا الكثير، لو سألتك متى آخر مرة حاولت فيها التركيز والتفكر؟ متى جلست بمفردك بعيدًا عن صخب التكنولوجيا لتذكر الماضي؟ أو للتأمل؟ متى آخر مرة توقفت عن تمضيت وقت على صفحات الأنترنت بدون أي هدف وجلست تحلل موضوعًا ما؟ والعديد من الأسئلة الأخرى…
هذا الأمر جعلني استشعر الوقت فعلًا، وأحس به، في السابق كنت أشعر بأن يومي ينتهي بسرعة، ووقتي قليل ومزدحم في بعض الأيام، لكن في الحقيقة أن التقنية كانت تسلبنا الجزء الأعظم من وقتنا بدون أن نشعر. ولا أعتقد بأن كلامي حول هذه النقطة سيكون أفضل مما كتبه أحد الكُتاب، للأسف لا أعلم من هو، ولكن كلامه درر يكتب بماء الذهب.
هوس التنبيهات
لاحظت بأني أصبحت إلى حد ما مهووس بالتنبيهات، فبينما أقرأ كتابًا وفي وسط الفقرة أسمع صوت تنبيه الهاتف “برنق” إلا وألتفت ناحيته لأمسكه وأنظر ما سبب هذا التنبيه، وفي بعض الأحيان أصبر لنهاية الفقرة وأنطلق لأرى ما سر هذا التنبيه لأعود وأجد نفسي قد نسيت مكان توفقي الأخير.
ليس هذا فحسب، بل أنتقل بين حساباتي في المواقع التي أشارك بها بحثًا عن تنبيهات جديدة، ربما تكون هناك رسالة خاصة، ربما يكون هناك تعليق ردًا على تعليق كتبته من قبل، ربما يكون هناك … وكأنني لو لم أرد بسرعة على ما يصلني من رسائل وتنبيهات لتدمر العالم، الموضوع في غاية البساطة، ولن يضر تأجيل الرد على أحد لبعض ساعات، المهم ألا تتحول حياتنا إلى مطاردات لهذه التنبيهات البغيضة.
بعض الأرقام
لنعجل الصورة واضحة عن كمية التنبيهات المهولة التي تصلنا وتشتت تركيزنا قررت حساب عدد التنبيهات التي وصلت إلي بعد نهاية التجربة، وكان العدد أكثر من 650 تنبيه خلال 7 أيام فقط، وللمعلوميه لستُ من النوع الذي يحب المجموعات في برامج التواصل، لدي بعض مجموعات فقط ما بين مجموعات مخصصة للأهل وأخرى للأصدقاء.
ولست أيضًا من أصحاب المتابعات وما شابه، ممن تجد في حساباتهم 11515481 متابع، ومع هذا لاحظ العدد الكبير الذي وصل إلي، وربما بالنسبة لأشخاص آخرين سيكون العدد أكثر بكثير، بالآلاف.
لو قسمنا عدد التنبيهات على عدد أيام التجربة 650 ÷ 7 = 90 تنبيه في اليوم، هل تعتقد بأن العدد قليل؟ فكر للحظة، تخيل لو كان هناك شخص جالس بجانبك طوال اليوم، وكلما أردت التركيز في شيء معين تجده كل دقيقة وأخرى يزعجك ويصرخ بأعلى صوته “تعال إلي”، وكلما حاولت التركيز مجددًا يعود لإزعاجك بدوره مجددًا.
هذا تمامًا ما يحدث معنا، فالهاتف بجوارك طول الوقت، وكل بضعة دقائق تسمع “برنق.. برنق.. برنق” وكأنه يستغيثك ويطلب مساعدتك في الحال. كيف بالله عليك سيكون تركيزك وإنتاجك وأنت محاط بجهاز إزعاج كهذا؟ المشكلة بأننا أصبحنا معتادين على هذا، ولا نعتبره مشكلة، بينما الواقع أنه مشكلة كبيرة تخطف منا جل تركيزنا.
اغتنام الوقت
من الأشياء التي لاحظتها أيضًا أني أصبحت اغتم وقتي بشكل أفضل من السابق، كان لدي 3 كتب، أتنقل بينهم بين الحين والآخر، قرأت أكثر من 500 صفحة خلال هذه الأيام السبع، بعض الأيام بمعدل 90 صفحة، والبعض الآخر لانشغالي يقل العدد، ولكن لو قارناها بوضعي السابق فبالكاد أقرأ 5 إلى 10 صفحة، وفي العديد من الأيام لا أقرأ شيئًا.
ولم أعد أُسوف وأؤجل المهام كما كنت أفعل سابقًا، بل إني أشعر بالحماس كلما تذكرت بأن هناك شيء ما علي تنفيذه، أنطلق لأغسل الملابس، ثم أعود لأنظف الغرفة، أغسل الصحون، أرتب الأغراض إلى غيرها من المشاغل.
ولا أكتفي بهذا بل أتحمس للذهاب إلى السوق لتمضية الوقت وشراء بعض النواقص بيمنا كنت سابقًا أكرهه كرهًا شديدًا، وهذا فقط لأنني أرغب في القضاء على أوقت باستغلاله بشيء مفيد ولو بجزء بسيط.
في اليوم الخامس على ما أضن وجدت لعبة ليقو مع أخي، كنت سعيدًا بها، فألعاب التركيب مسلية، وتقضي على الكثير من الوقت، لحسن الحظ كانت اللعبة لتركيب سيارة، بالتحديد سيارة فورد موستينق الرياضية، ولم أكتفي فقط بتركيب السيارة، بل حاولت أيضًا تحرك إبداعي أكثر، وصنعت من قطع الليقو مركبة عجيبة، نعم أعلم بأنها ليست جميلة، ولكنها محاولة رائعة إذا عرفت بأن القطع أساسًا محدودة التصميم ولا يمكنك بناء نماذج مختلفة بها. أترككم مع الصور 🙂
لديك كل الوقت الذي تحتاج إليه
أتذكر عندما حدثنا هادي عن تجبرته كصبي الشاي في أحد المقاهي، عندما جاءه رجل عجوز لشرب الشاي في الصباح، وبينا كان يحاول جاهدًا أن يفتح علبة السكر المغلفة ليضعها في الفنجان عرض عليه هادي أن يساعده لتعجيل العملية، فرد عليه العجوز قائلًا “لدي كل الوقت الذي احتاحه“.
لاحظت بعد انقطاعي عن التقنية بأني أصبحت أفكر بهذه الطريقة، ولم أعد عجولًا بشأن أي شيء إطلاقًا، لم العجلة أساسًا، من أجل أن تعود لترسل بعضة أحرف على هاتفك؟ واو إنه سبب عظيم حقًا 🙂
عندما أذهب إلى المطعم ويتأخر تحضير طلبي لم أعد أشعر بالضجر كما في السابق، عندما أذهب إلى مشوار بسيط سيرًا على الأقدام لم أعد أسارع خطاي من أجل العودة بسرعة، بل ربما أسلك طريقًا أطول بدون أن يزعجني هذا، عندما أذهب إلى المسجد ويتأخر الإمام عن الحضور لتأدية الصلاة لم أعد أتذمر في داخلي بأنه لا يقدر مسؤولية الوقت.
بل أصبحت أنظر للموضوع بزاوية مختلفة، والتفكير بهذه الطريقة يجعلك أكثر قريبًا إلى الله عز وجل، فيجعلك هذا تفكر بطريقة مختلفة عند تأدية الصلاة مثلًا، أو قراءة القرآن… لما العجلة؟ لديك كل الوقت الذي تحتاج إليه.
العالم ما زال واقفًا مكانه
إن أول ما يخطر على بالك عندما تفكر في الانقطاع عن التقنية بأن جديد أخبار العالم سيفوتك، وتعتقد بأنه عندما تعود ستجد نفسك قد تأخرت عن العالم سنوات، بينما الواقع بعد تجربتي أن العالم ما يزال في مكانه، واقفًا تمامًا كما كان، لم يفُتني شيء إطلاقًا، ماذا سيفوتني أصلًا؟
الغالبية العظمى من الأخبار التي نقرأها يوميًا عبارة عن وجبات سريعة لا تسمن ولا تغني من جوع، وهي مشابه لأخبار الأمس وقبل الأمس… والتخلي عنها أو لنقل تقليل مطاردتها لن يؤثر على حياتك نهائيًا. لاحظ عند تنقلك من موقع لآخر وأنت تتابع مستجدات العالم، ما هي الأخبار التي تشعر بأنها مهمة فعلًا، هل ما يحدث من أخبار مهم حقًا؟ أم الأم مجرد تضخيم إعلامي. فكر.. فكر فيها بصدق.
متفرقات
على هامش تجربتي هذه بعض المتفرقات التي حدثت معي:
- عدت لاستخدام الورقة والقلم بعد انقطاع دام لسنوات، والمضحك أن خطي ما زال قبيحًا كما كان 🙂
- دائمًا ما يقولون بأن الابتعاد عن التقنية لساعتين قبل النوم سيجعل نومك أفضل، يا رجل، أبتعد أسبوع كامل ولم يتحسن نومي إطلاقًا.
- بصراحة لم أنقطع عن التقنية كليًا، ما زلت أرد على أتصالات الهاتف التي تصلني، وهي بالمناسبة قليلة جدًا (أثنتين أو ثلاث فقط طوال مدة التجربة)، كما أضبط منبه الهاتف قبل النوم، وأتابع دروس اللغة الأنقليزية على دولينقو، باختصار استخدم الهاتف ما بين 5 إلى 10 دقائق في اليوم فقط (باستثناء أول يوم وصلت المدة لساعة تقريبًا بسبب أمور ضرورية).
خلاصة
في نهاية المقال، لا أريد منك أن تنقطع عن التقنية إلى الأبد، ولا حتى أريدك أن تجرب لأسبوع كما فعلت (إلا في حال أعجبتك الفكرة وتريد تجربتها بنفسك) فالتغيير لا يكون لفترة من الزمن، التغيير يكون مستمر معك طول عمرك.
أريد منك فقط الانتباه إلى النقاط التي ذكرتها بالأعلى، لا تجعل التقنية تسلبك كل حياتك، التقنية مفيدة، مفيدة جدًا، ولكن ليس بجعل حياتك كلها مرتكزة عليها. ركز على النواحي التي استخلصتها من تجربتي، وحاول أن تجمع بينها وبين استخدام التقنية، تذكر خير الأمور أوسطها.
ولا أقول بأني قد تمكنت من الموازنة بين هذه النقاط وبين التقنية، الأمر يحتاج إلى تدريب أكثر، أنهيت الخطوة الأولى منها “أكتشاف المشكلة وتحليلها” وبقي الثانية “العمل على تغييرها”.
هل لديك تجربة مشابهة؟ أخبرنا بها 🙂 تحياتي لكم.