في إحدى سنواتي المظلمة مررت بواحدة من أسوء تجاربي، تجربة وظيفة الـ معلم ، ومع كامل أحترامي وتقديري لهذه المهنة العظيمة إلى أنني أكرها، أمقتها بشدة، ولا أتصور يومًا لأجد نفسي على كرسيها إلى في حال تقطعت بي السُبل، وأرجو من الله ألا يحدث ذلك.

الحمد لله أن تجربة كوني معلم لم تدم سوى بعضة أشهر، خلالها حدثت لي الكثير من المواقف، منها ما هو جميل ومنها ما هو مضحك، ومنها ما يعتبر أخطاء فادحة. هذه هي الحياة، عبارة عن دروس متنوعة ومختلفة، تأتيك شئت أم أبيت، أشارككم بعضها في هذا المقال.

وكلت لي مهمة الإشراف على الصف الأول الابتدائي، وبعض الحصص المتفرقة لمجموعة من الصفوف الأخرى، بالإضافة إلى حصص الانتظار التي قد تأتي في أي لحظة (إذا غاب معلم عن حصته أحضر أنا أو أحد الزملاء بدلًا عنه).

نشاز:

كان لدي طاب صاخب جدًا، حديثة عبارة عن صراخ، وليس أي صراخ، بوق متحرك على هيئة إنسان، الصراخ عنده حالة طبيعية، وليست ردة فعل لحدث معين.

كنت أقول له أن يتحدث بهدوء، ولكن لا يمكنني تغيير شيء هو الأساس في حياته خارج المدرسة. ذات يوم مرت طائرة من فوق سماء المدرسة، لينطلق الفتى يصرخ بأعلى صوته، تخيل كيف ستكون النتيجة لو وضعتَ مضخم صوت على بوق، دمار شامل لطبلة الأذن.

بدأ بالصراخ: أستاذ طائرة، طائرة، طائرة. فلم يكن مني إلى أن صرخت عليه بدوري: أسكت، أنا أراها.

يضحكني الموقف كلما تذكرته.

مجانين:

في صفي طالبان توأمان، أكاد أجزم أنهم مجانين، أو مختلين عقليًا، طريقة حديثهم، تصرفاتهم، ردود أفعالهم، لا شيء فيهم طبيعي، حتى في أحد الأيام أخرجتهم لحصة الرياضة فلم يلعبا مع باقي الطلاب، أخرجا يدهما من القميص، وبداء بمحاكاة وضعية “الإضطباع” ثم طافا من حولي كأنها يطوفان حول الكعبة، ويرددان كلام لا أفهمه.

رضيع:

أما هذا الطالب فحرام على أهله تدريسه، ما يزال صغيرًا على دخول المدرسة، صغير جدًا لدرجة أنه دائمًا يسرح في فلكه الخاص، يلعب بالحصى والرمل، ولا يعير ما حوله أي انتباه.

وجدته ذات مره يلعب بالرمل كعادته في ساحة المدرسة، المشكلة أنه يدخل أصابعه في حفرة لا تدري أيخرج منها عقرب أم ثعبان.

وما إن انتبهت له حتى مسكته بيده ثم وضحت له أن العب في هذه الناحية خطير للأسباب السابقة، وذهبت معه لغسل يديه المليئتان بالتراب، وأجزم أنه حينها لا يدري ماذا كنت أقول.

مذهل:

سليمان، طالب مختلف تمامًا عن الباقي، ليس بطريقة سلبيه، بل مذهلة، عقلة وذكائه في مستوى آخر، لا يقارن بباقي زملاءه.

في إحدى المرات كنت أريد تمضية الحصة بأي طريقة فهي ليست حصة رسمية، فأعطيت الطلاب أقلام السبورة ليرسموا ما شاؤوا، وكل طالب له وقت محدد يرسم فيه.

سليمان لم يكن متحمس مع الفكرة، فقالي لي: أنا لن أرسم. لماذا؟ أنت تريد منا أن ننشغل بالرسم ونهدأ، لا تقلق سأبقى مكاني ولن ازعج.

قد يبدو تصرف عادي عند البعض، ولكن إذا نظرت له من منظور أنهم أطفال، وأعمارهم بين الست والسبع فقط، فهو شيء مميز حقيقة.

غلطة:

من أكبر الأخطاء التي ارتكبتها، حينما دخلت الصف لأول مرة، شاهدني أحد الطلاب وانطلق مسرعًا يحضنني، المشكلة أنه حضنني من الخلف تقريبًا.

في تلك اللحظة، في أقل من ثانيه، تحرك جسدي بسرعة تلقائيًا وبدون تفكير، نهرته وأبعدته بيدي. ثم توقف الزمن، ما الذي فعلته؟ ما الذي فعلته؟ بدأت في التفكير، ماذا لو كان يتيمًا، ماذا لو كنت أذكره بأحد أقرباءه، والده، أو ربما شخص عزيز عليه، شعرت بندم شديد لم أندم مثله منذ سنين.

النظر إلى عيني الطفل والخوف يملأه، شعور مزعج وبغيض لا أتمنى تكراره، استغرق مني الوقت أيامًا حتى استطعت التقرب إلى الطالب والحديث معه، ومحاولة جعله يعود إلى حالته الطبيعية، المليئة بالحيوية والنشاط.

لا أقول أن ضرر خطأي قد مُسح، هو خطأ جسم لا يمكنني إنكاره، لكني أرجوا من الله ألا يؤثر عليه.

انتقاد:

كنت جالسًا مع رفقتي من المعلمين الجديد في غرفة المعلمين، عندما خرج أحد المعلمين القدماء عن طوره وبدأ بانتقادنا، وأن المعلمين الجديد هم سبب تدهور الطلاب لأنهم لا يجيدون التعليم وغيرها من العبارات المسيئة، وبينما بعض الأساتذة الآخرين يحاولون “ترقيع” الموضوع، ويخبرونه أننا موجودون في نفس الغرفة ونسمع حديثه لكن دون جدوا.

بقيت مع زملائي جالسين في ناحية الغرفة، نتحدث في مواضيعنا المسلية، نسمعه ولا نعيره أي اهتمام، كأنه غير موجود.

حيلة:

بعض المعلمين القدماء كانت لهم أساليب ملتويه لاستغلال المعلمين الجدد، فيأتي لك كأنه يريد مساعدتك، ويريد أن يعلمك بعض الأساليب التعليمية، ولم يكن هدفه إلا شيء واحد فقط، استغلالك وجعلك تشغل حصته، ليذهب يسرح ويمرح.

اكتشفنا الخدعة باكرًا، ولم تعد تنطلي علينا، ولكن المعلمين السابقين لهم طرق أخرى ملتويه أيضًا.

وكيل المدرسة فقط هو المسؤول عن توزيع حصص الانتظار، كان يكتب لنا ورقة فيها الحصص لنذهب إليها، أحد المعلمين كتب في ورقة يحاكي فيها طريقة الوكيل، وأرسلها مع طالب يخبرنا أن هذه الورقة من الوكيل فيها توزيع الحصص.

وفعلًا انطلت علينا الخدعة أول مرة، ولكن لم تنجح في الثانية، فعندما جاء الطالب وأعطانا الورقة قلنا له أعدها إلى الأستاذ فلان، وذكرناه بالاسم حتى يعرف عندما يعيدها له الطالب أن خطته مكشوفه.

عناق:

إحدى اللحظات الجميلة لأكون منصفًا معكم هي عندما يبدأ الطلاب بالتعود عليك، وربما يحبك بعضهم ويتعلقوا بك. دخلت إلى الممر متجهًا إلى صفي كالعادة، فشاهدني الطلاب من الباب، لن تصدقوا ما فعلوا.

لقد ركضوا باتجاهي وهم ينادون باسمي، فاتحين أيديهم استعدادًا للعناق، وهو ما حدث بالفعل، بعد ذلك مشوا معي إلى الفصل محيطين بي، هذا يخبرني بقصة، والآخر يمسك يدي حتى دخلنا الصف.

النهاية 🙂

هذه كانت مجموعة من المواقف المتفرقة في رحلتي كـ معلم ، أرجوا أن تكون ممتعة لكم 🙂 والآن حان دوركم لتشاركوا بعض من تجاربكم المختلفة في مجالات الحياة الشتى.

ختامًا، لن أعتذر عن الانقطاعة الطويلة، ولن أعد بعودة قوية كما يفعل البعض 😉 لكني سأحاول الكتابة على فترات أقرب بإذن الله، هناك مقال دسم سأنشره قريبًا إن شاء الله.

هل أعجبتك التجربة؟ جرب قراءة بعض تجاربي الأخرى: ثلاثون يومًا في كوريا الجنوبيةرحلتي إلى البيت العتيق.

تحيات معلم معتزل 🙂

صورة التدوينة من إبداع ArseniXC